كان القرآن الكريم وما زال هدى الأمة الذي اهتدت به في درب حياتها، فمنه استمدت قوتها وحيويتها، وبالاعتصام به كانت عزتها وكرامتها، وهو سيظل مصدر قوتها وعزتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ما دانت معتزة متمسكة وعاملة به.

ولقد اجتهد المسلمون -ولا يزالون- في خدمة القرآن الكريم، اجتهادا «لم يحظ َ به كتاب أخر، حفظا»وكتابة و«جمعا، فأنشأوا المعاهد ودُور العلم الخاصة بتعليمه وتحفيظه جيلا» بعد جيل، كل ذلك تصديقا وتحقيقا» لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون) [الحجر:9]

وكان المسلمون الأوائل ـ لسلامة فطرتهم و سليقتهم العربية الصحيحة  وحرصهم على كتاب ربهم ـ يتلون كتاب ربهم تلاوة مجوَّدة، كما تلقوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه بعد دخول عدد كبير من العجم في دين الإسلام واختلاط العرب بهم، بدأ اللحن يتسرب إلى الألسنة، وبدأت العُجْمَة تفشوا في كلام الناس، وتعدى ذلك إلى اللحن في كتاب الله، فسارع العلماء لوضع قواعد تضبط ألسنة الناس بالقراءة الصحيحة والسليمة للقرآن، واعتبروا مراعاة تلك القواعد عند قراءة القرآن فرض عين على كل قارىء لكتاب الله الكريم.

فظهر بذلك علم التجويد، الذي هو من أشرف العلوم وأجلها، إذ بمعرفته تُعرف القراءة الصحيحة لكتاب الله، والجهل بها يعني الجهل بكتاب الله.

وقد بحث علماء التجويد في هذا العلم (أحكام التلاوة)، من إظهار وإقلاب وإدغام وإخفاء، وصفات الحروف ومخارجها، ونحو ذلك من الأبحاث التي تكفلت كتب علم التجويد ببيانها، إلا أنه ينبغي أن نعلم أن معرفة صفات الحروف وكيفية إخراج الحرف من مخرجه الأصلي مع شكله وضبطه أول ما يجب على المسلم أن يتعلمه وهو المقصود الأول من علم التجويد.

وقد قسَّم علماء التجويد التلاوة القرآنية إلى ثلاثة أقسام:

الأول الترتيل: وهو القراءة بتؤدة واطمئنان، مع إعطاء الحروف حقها ومستحقها، من المخارج والصفات.

الثاني الحَدْر: وهو سرعة القراءة.

الثالث التدوير: وهو التوسط بين الترتيل والحدر.

ينبغي أن تُلحظ الأحكام التجويدية في هذه الأقسام الثلاثة ,ولا ينبغي تفويت شيء منها في أي قسم.

فضل قراءة القرآن الكريم

قال الله تعالى في سورة فاطر: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ(29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ(30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ(31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)).

الآية الأولى من هذه الآيات تسمى آية القراء كما قال قتادة: (كان مطرِّفُ رحمه الله تعالى إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القراء).

فقد أثنى الله تعالى في هذه الآية على القراء الذين يتلون الكتاب و يعلمون به، فيصلون و ينفقون ويقومون بأوامره سبحانه، ثم بشرهم بما وعدهم من الثواب العظيم والنعيم المقيم، فقال سبحانه:(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) أي أجورهم مقابل أعمالهم، لأن الأجر مقابل الأعمال، ولكن ليس هذا ثوابهم فقط بل هناك الفضل من الله تعالى بالزيادة يزيدهم بها من عنده سبحانه وهذه الزيادة لا يعلم قدرها وعددها إلا الله تعالى، ولكن أعظم الزيادات التي يتفضل الله تعالى بها عليهم أن يكشف لهم الحجاب حتى ينظروا إليه سبحانه، كما روى مسلم وغيره عن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله تعالى: أتريدون شيئا” أزيدكم ؟.

قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى ثم قرأ قول الله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(26)) [سونس:26].

وقد أثنى الله تعالى في هذه الآيات السابقة على هذه الأمة المصطفاة من بين الأمم، المخصوصة بوراثة كتاب الله العظيم، وحق لأفضل أمة أن ترث أفضل كتاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صنفهم إلى ثلاثة أصناف بالنسبة لأخذهم من كتاب الله وتمسكهم به.

فالأول: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) وهو التارك لأمر محتم ,أو فاعل لمنهي عنه محرم، وقد ورد عن السلف الصالح أنهم الذين خلطوا عملا” صالحا” وأخر سيئا».

والثاني: قال تعالى: (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ)  وهو المؤدي للواجبات التي بينه وبين الخالق، وبينه وبين المخلوقين التارك كذلك للمحرمات، ويقال أنهم أصحاب اليمين، ويقال: أنهم الأبرار عند مقابلتهم بالمقربين.

والثالث:هم الذين قال تعالى عنهم: (وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) وهؤلاء الذين قاموا بجميع الأوامر وتركوا جميع المنهيات، وسبقوا بفعل الخيرات وهي النوافل فوق الفرائض، ولنعلم أن لفظ الخيرات اسم جنس يعم كل خير زائد على الفرض ولا يقتصر على موضوع العبادات فقط.